لماذا نعيد قراءة الكتب؟

pexels-stockphotoartist-1082953

إعادة القراءة متعة يشوبها الشعور بالذنب بالنسبة لكثير من الناس، كما تصفها باتريشيا ماير سباكس في كتابها حول إعادة القراءة بـ “الانغماس في متعة مُذنبة”. كيف يترك قارئ متفانٍ قائمته القرائية الزاخرة بالقصص الجديدة التي تنتظر من يستكشفها، ويضيّع وقته مع كتاب يعرفه بالفعل؟ وفي الوقت ذاته، يشيد الأكاديميون على مر التاريخ بإعادة القراءة باعتبارها الطريقة الوحيدة لفهم النص فهمًا حقيقيًا. ولو قابل قارئ جاد شخصًا يقول إنه “قرأ هذا الكتاب عشرات المرات”، فقد يشعر بشيء من النقص.   

إلا أنّ معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها، وبالتالي ربما تخف حدة المشاعر غير المريحة المصاحبة لكلتا الحالتين.

محاسن إعادة القراءة

لماذا نعيد القراءة؟ تتعدد الإجابات كما تتعدد أسباب قراءة الكتاب للمرة الأولى، والمتعة على رأسها. ومع ذلك، فإعادة القراءة تعطي القارئ شعورًا بالراحة النفسية بفضل استقرار القصة المقروءة وطبيعتها الثابتة، أو توقظ فيه مشاعر الحنين إلى ذكريات محبوبة. وقد تمثل إعادة القراءة تجربةً اجتماعية أيضًا، وذلك عندما يكون هدفها مشاركة شخص يقرأ الكتاب لأول مرة.  

فهم التعقيدات

غالبًا ما يناقش الأكاديميون فوائد إعادة القراءة من جهة كونها وسيلة لتحسين فهم النصوص المعقدة وفهم الذات.

يتّفق معلّمو الأطفال في سن القراءة المبكرة مع معلّمي اللغات الأجنبية على أن إعادة القراءة تحسّن الاستيعاب، ولا يقتصر ذلك على التعرف على الكلمات الأساسية، بل يشمل فهم الأحداث وإدراك التفاصيل الدقيقة وتطوير المهارات التحليلية أيضًا. كذلك لا غنى عن إعادة القراءة بالنسبة للبالغين، خاصة في البيئات الأكاديمية، من أجل فهم النص بما يكفي لبناء حجج نقدية قوية. وقد وصل الأمر إلى درجة تحديد قيمة العمل الأدبي بناءً على قابلية إعادة قراءته.

يقول فلاديمير نابوكوف في كتابه محاضرات في الأدب:

“عندما نقرأ كتابًا للمرة الأولى، فإن الجهد المبذول في تحريك أعيننا من بداية السطر إلى نهايته، سطرًا بعد سطر، وصفحة بعد صفحة، هذا العمل الجسدي المعقد الذي نقوم به تجاه الكتاب، إلى جانب عملية فهم ما يتحدث عنه الكتاب، كل هذا يحول بيننا وبين تقدير قيمته الفنية”.

إن إعادة القراءة تُكسب القارئ فهمًا للنص لا يتحقق بمجرد القراءة الأولى. ومن دونها ربما يكون من المحال تقدير المواهب الدقيقة للكاتب، أو فهم الأفكار والموضوعات المعقدة للنص.

 

فهم الذات

تعد إعادة القراءة شكلًا من أشكال التأمل الذاتي. تقول سباكس: “إعادة القراءة الهادفة في حد ذاتها تُنتج نوعًا من الوعي الذاتي”. وبما أن الكتاب لا يتغير أبدًا، فقد يمثل معيارًا يُقاس عليه مدى نمو القارئ، كما توضح: “إن ثبات الكتب المُعاد قراءتها يبني شعورًا قويًا بالذات… فهو يكشف عن تطور الذات أو استمراريتها”. وبالتالي، قد تمثل إعادة القراءة وسيلةً لإعادة النظر في الذات والتغيرات التي طرأت عليها منذ القراءة الأولى.

مثالب إعادة القراءة

ومع ذلك توجد مساوئ محتملة لإعادة القراءة، فهي تستهلك الوقت، وتصرف القراء عن قوائمهم القرائية الطويلة، وقد تكون تجربة مُحبطة إن لم يظل الكتاب محبوبًا للقارئ كما كان في ذاكرته منذ القراءة الأولى. قد ينزعج المرء أيضًا من إدراك التغيرات التي طرأت عليه، كما قد تضيع بعض التفاصيل الدقيقة، وتحسين الفهم ليس مضمونًا بالضرورة.

ظاهرة المكسب والخسارة

يطرح ديفيد غاليف في كتابه “أفكار ثانية” ظاهرة المكسب والخسارة في إعادة القراءة: حقيقة أن بعض التجارب لا يمكن أن تُعاش إلا في القراءة الأولى، وتُفقد في القراءات التالية. يقول “النظرة السائدة لإعادة القراءة أنها عملية مكمّلة نتعلم منها أكثر وأكثر حتى نستوعب كل كلمة في الكتاب. إلا أن مثل هذه المراجعة المستمرة قد تُضعف حساسيات معينة” ومن بينها تأثير الحبكة، كالتشويق والعفوية. فالمشاعر التي تنتاب القارئ، كالمتعة والإثارة والفضول، تدفعه إلى الإسراع في القراءة، مما يجعله يغفل عن التفاصيل الدقيقة التي تظهر في القراءات التالية، لكن هذه المشاعر عناصر مهمة أيضًا قد تخفت في القراءات التالية.  

زيادة الألفة زيادة الاستيعاب

إضافة إلى ما سبق، ما لم تكن إعادة القراءة مركزة ومقصودة لاكتساب أفكار جديدة، فقد لا تؤدي إلى تحسين الفهم. نشرت مطبعة بيلكناب التابعة لجامعة هارفارد عام 2014 مقالة تنتقد إعادة القراءة كاستراتيجية دراسية لأنها “تنطوي غالبًا على نوع من الخداع الذاتي غير المقصود، إذ أن زيادة الألفة مع النص تبدو وكأنها إتقان للمادة”. وهذا ينطبق كذلك على إعادة قراءة الأدب، فلا يلزم أن يكون فهم مَن قرأ كتابًا عشرات المرات أدق ممن قرأه مرةً أو اثنتين فقط، لكن كان يسعى إلى استيعاب النص وتعميق رؤيته مع كل قراءة.

لماذا نعيد القراءة؟

لماذا نكترث إذًا بإعادة القراءة إن كان لها مثل هذه المثالب؟ يجدر الانتباه إلى أن ظاهرة المكسب والخسارة التي اقترحها غاليف تختلف من كتاب لآخر ومن قارئ لآخر. فالروايات الغامضة مثلًا تفقد عنصر التشويق، والقصص القصيرة ذات النهاية المفاجئة تفقد عنصر المفاجأة، لكن إعادة القراءة تجعل القارئ في حالة ترقب. إلا أن ذلك لا ينطبق على الجميع بالضرورة كما يشير غاليف، فالقارئ المناسب قد يستمتع أكثر بقراءة القصة وهو يعرف نهايتها. وقد يصعب فهم أعمال ويليام فولكنر وإن كان في القراءة الثانية أو الثالثة (أو الرابعة حتى)، لكن هذه الصعوبة جزء من المتعة التي يعيشها القارئ المناسب.

لإعادة القراءة قيمة جوهرية، لكن هذه القيمة ذاتية. إن أعدت القراءة من أجل تحسين فهمك للجوانب الفنية الدقيقة والمعقدة، فاعزم على أن تخرج من النص بأكثر من مجرد الألفة. وإن كنت تعيد القراءة من أجل المتعة، فركز على الجوانب التي تستمع بها، وانتبه إلى أن بعض العناصر قد لا تجد لها نفس التأثير في القراءة التالية.

لا ينبغي أن يشعر أي قارئ بأنه غير مُنجز لأنه آثر إعادة قراءة كتاب مفضل على الالتزام بقائمته القرائية، أو لأنه لا يعيد القراءة إلا نادرًا، فلكل من الحالتين متعة خاصة.

المصدر 

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها