يتحدث كتاب “الدماغ الخلّاق” لعالمة الأعصاب نانسي أندرياسن (Nancy Andreasen) الذي نُشر في عام 2005 عن موضوع الإبداع من زاوية علمية تتجاوز التفسيرات التقليدية التي تحصر الإبداع الفني أو الابتكار العلمي في مجرد “موهبة فطرية” أو “إلهام مبهم.”
الكتاب يقع في 254 صفحة، ترجمه إلى العربية حميد يونس ونشرته جامعة الكوفة في قسم الدراسات الفكرية عام 2019م
ينطلق العمل من تعريف الإبداع بوصفه عملية عقلية معقّدة تنتج أفكاراً جديدة وأصيلة ذات قيمة، سواء في المجالات الفنية أو العلمية أو الثقافية عموماً. ما يميز هذا الطرح هو أنه لا يكتفي بالمظاهر الخارجية للابتكار، بل يسعى إلى فهم الأسس العصبية الكامنة وراء القدرة على تجاوز المألوف وإعادة صياغة المعارف والأدوات بطرق مبتكرة.
يتمحور الإطار النظري لأندرياسن حول فرضية أن الدماغ البشري يمتلك بنية ووظائف مرنة تمكّنه من إيجاد روابط غير متوقعة بين أفكار ومعلومات متباعدة، وتوليد حلول جديدة لمعضلات معقّدة. وترى المؤلفة أنّ القدرة الإبداعية ليست حكراً على الأفراد “العباقرة” وحسب، بل إنها كامنة في معظم العقول، وإنْ بدرجات متفاوتة، ويمكن تعزيزها بالمحفزات الصحيحة.
ما يثير الاهتمام في هذا الكتاب هو طموحه لتوحيد نتائج أبحاث متفرقة: دراسات تصوير الدماغ الوظيفي، وتحاليل المقارنة بين سِيَر مبدعين مرموقين، وأبحاث في علم النفس المعرفي وعلم الأعصاب الوجداني. هذه المقاربة التكاملية تمهّد السبيل لفهم أكثر علمية لما يحدث حين “تتوهّج” الفكرة الخلّاقة في الذهن، وحين تنبثق لحظة “الإلهام” التي طالما حيرت الباحثين. يتيح هذا المدخل النظري للقارئ رؤية جديدة للإبداع، بوصفه نتاجاً لعلاقة بنيوية بين نشاط القشرة المخية، والظروف البيئة، والعوامل النفسية، ما يجعل العملية الإبداعية ظاهرة يمكن وضعها تحت مجهر علم الأعصاب بشكل منهجي.
الأسس العصبية وبيولوجيا التفكير المبتكر
يركّز الكتاب على رسم خريطة عصبية للإبداع، في محاولة للكشف عن المسارات الدماغية التي تؤدي إلى إنتاج الأفكار المبتكرة. توصّلت أندرياسن، عبر استعراضها للدراسات التي استخدمت تقنيات التصوير العصبي، مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET)، إلى أن الإبداع ليس وظيفة منطقة واحدة منعزلة، بل نشاط متداخل لشبكات عصبية متعددة الاختصاصات. تتضمن هذه الشبكات مناطق مسؤولة عن التركيز والانتباه، وأخرى معنيّة بعملية استدعاء الذاكرة بعيدة المدى، بالإضافة إلى مناطق تهتم بالتمثيل البصري والتخيل الرمزي.
يظهر من هذه الدراسات أن المخ البشري يوظّف بمرونة عدّة أنماط من التفكير: النمط التقاربي الذي يسعى لإيجاد الحل “الصحيح” لمسألة ما، والنمط التباعدي الذي يجمع بين عناصر متباعدة لا يجمعها رابط واضح. هذا النمط الثاني هو ما يميز التفكير المبتكر، إذ يتيح للدماغ اختبار فرضيات جديدة، والتجرؤ على السير في مسارات ذهنية غير مألوفة. وتلفت المؤلفة الانتباه إلى أنّ المناطق المسؤولة عن معالجة الدلالات المجازية، وإقامة تشبيهات غير اعتيادية، تلعب دوراً أساسياً في تعزيز القدرة على الابتكار.
من جهة أخرى، يؤكد الكتاب على مفهوم “المرونة العصبية” (Neuroplasticity)، أي قابلية الدماغ لإعادة تشكيل الروابط بين الخلايا العصبية استجابة للخبرات الجديدة. هذه الخاصية تمنح الدماغ الحرية لإعادة تنظيم معارفه، واختبار علاقات سببية وموضوعية مختلفة، ما يسمح بتوليد حلول غير مسبوقة. بناء عليه، يمكن فهم الإبداع بوصفه ديناميكية عصبية مستمرة، تهدف إلى تطوير نماذج عقلية جديدة بدل الاقتصار على الأنماط المستهلكة.
الذكاء، الخيال والظروف النفسية المساعدة
لا يتجاهل الكتاب أهمية الذكاء في عملية الإبداع، لكنه يفصل بين الذكاء بوصفه قدرة تحليلية وحلّالية، وبين الخيال الذي يمكّن العقل من تجاوز الواقع المباشر. تُظهر الدراسات التي تستعرضها أندرياسن أن مستوى الذكاء فوق المتوسط قد يكون شرطاً ضرورياً، لكنه ليس كافياً وحده لإنتاج الأفكار الخلّاقة. فالذكاء التحليلي يساعد على تنظيم المعلومات، غير أن الإبداع يتطلّب إطلاق العنان للتخيل، والانفتاح على احتمالات جديدة.
تشدّد المؤلفة أيضاً على أهمية الظروف النفسية والعاطفية في دعم التفكير المبتكر. فالإبداع يحتاج إلى قدر من الحرية الداخلية، وإلى بيئة ذهنية تخلو من القيود الصارمة أو الخوف المفرط من الفشل. يعمل الانفتاح الوجداني، وحب الاستطلاع، والشغف المعرفي على تغذية الرغبة في الاستكشاف العقلي، وتحويل التحديات إلى فرص لاختبار خيارات جديدة. هكذا يتضح أن العملية الخلّاقة تنبثق عند توازن دقيق بين التحليل المنضبط والخيال الحر.
ترتبط القدرة على التفكير الابتكاري كذلك بسمات شخصية معيّنة، مثل المرونة أمام التغيير، وتقبّل الغموض، والاستعداد للتعلم المستمر. هذه السمات توفر بيئة داخلية خصبة للتجريب، وتمكّن الفرد من تحدي القوالب النمطية والخروج من شرنقة المألوف. بذلك، يجتمع الذكاء والخيال والحالة النفسية الداعمة لتشكيل أساس صلب ينطلق منه الدماغ نحو عوالم جديدة من الأفكار.
البيئة والتنشئة ودورهما في دعم التفكير الخلّاق
يؤكد الكتاب على أن الإبداع ليس نتاجاً لمعطى بيولوجي ثابت فحسب، بل إن السياق الاجتماعي والثقافي يلعب دوراً محورياً في تنمية القدرات الذهنية الخلّاقة. فقد يبرز الدماغ المبتكر عند الأفراد الذين يحظون ببيئة تحفّز التساؤل، وتسمح بتجاوز الحدود المعرفية السائدة. تُظهر أندرياسن كيف أنّ التنشئة التي تشجع الأطفال على طرح الأسئلة، واستكشاف الأفكار المختلفة، وتنمية مواهبهم وتقدير محاولاتهم، تسهم في تأسيس قاعدة متينة للإبداع المستقبلي.
تظهر أهمية التدريب والممارسة في هذا السياق. فحين يتعرض الفرد لتجارب متنوّعة، ويلتقي بأشخاص من خلفيات معرفية مختلفة، ويطّلع على أعمال فنية وعلمية مبتكرة، يصبح الدماغ أكثر استعداداً لإقامة روابط ذهنية جديدة. علاوة على ذلك، تلعب المؤسسات التعليمية والمنظومات الاجتماعية دوراً في توفير “مساحة ذهنية آمنة” للتجريب. مجتمعات تقدّر الاختلاف وتكافئ التفكير النقدي تعزّز بروز العبقريات.
من جهة أخرى، يشير الكتاب إلى أهمية الفترات الزمنية والظروف التاريخية. فالثورات العلمية والفنية الكبرى غالباً ما بزغت في لحظات ازدهار فكري ساهمت فيها جامعات، ومراكز علمية، وحركات ثقافية نشطة. هذا البعد الحضاري يؤكد أن الإبداع ظاهرة جماعية بقدر ما هو موهبة فردية، وأن البيئة الملائمة قد تحفّز عقولاً عديدة للوصول إلى ابتكارات فذّة.
الموهبة، العبقرية والاضطرابات العقلية المحتملة
يتطرّق الكتاب إلى مسألة طالما أثارت الجدل: العلاقة بين العبقرية والاضطرابات النفسية. يعرض المؤلفون في الدراسات التي تستعين بها أندرياسن أدلة على أن نسبة ملحوظة من الشخصيات المبدعة عبر التاريخ عانت من حالات مثل الاكتئاب أو الاضطراب ثنائي القطب. يفسّر البعض هذه العلاقة بأن الحساسية العالية لدى المبدعين، ونزوعهم لاستكشاف أعماق المشاعر، قد تجعلهم أكثر عرضة للمعاناة النفسية.
مع ذلك، تحرص المؤلفة على عدم اختزال العبقرية في الإضطراب العقلي. الإبداع ليس نتيجة اختلال وظيفي فقط، بل قد يكون للألم النفسي دور في حفز عملية البحث عن حلول جديدة ومبتكرة. لا توجد علاقة خطية تحتم ارتباط الموهبة بالمرض، إلا أنّ بعض العقول المبدعة تعمل في ظروف وجدانية مضطربة تعيد تشكيل النظرة للعالم.
تعالج أندرياسن هذه النقطة بحذر، مشيرة إلى ضرورة فهم هذه العلاقة في سياقها، وعدم اتخاذها كقاعدة عامة. فقد يبدع المرء دون أن يعاني من أي اضطراب، والعكس صحيح. الأهم هنا هو إدراك أن النفس البشرية، بما فيها من تعقيد وانفعالات مختلطة، قد تهيّئ أحياناً مساحات جديدة للخيال، وتدفع نحو إعادة تشكيل الواقع، وفي ذلك مؤشر على درجة من التداخل بين الجانب الانفعالي والعصبي في إنتاج الأفكار الخلّاقة.
الإبداع في الفنون والعلوم: توافقات واختلافات
يستعرض الكتاب أمثلة تاريخية لفهم كيفية تجلي الإبداع في مجالات مختلفة. ففي الفنون، يميل المبدع إلى تحرير الخيال من قيود المنطق المباشر، والسماح للأفكار والمشاعر بالتعبير في صور غير مألوفة. أما في العلوم، فيتجلى الإبداع في صياغة نظريات جديدة، واختبار فرضيات غير مطروقة، وإعادة تفسير المعطيات بطرق مبتكرة. لكن المفارقة تكمن في أن التفكير العلمي المبدع أيضاً يحتاج إلى جانب تخيّلي، يتيح له تجاوز المعطيات الخام وتكوين نماذج تصورية تساعد على فهم الظواهر.
هكذا يتضح أن الإبداع ليس حكراً على حقل معرفي دون آخر، بل هو خاصية عامة للعقل البشري. والاختلاف قد يكمن في طبيعة المقاييس التي يقيّم بها كل مجال مدى أصالة الإنتاج. ففي الفن، قد يكفي التعبير الجديد والإحساس الجمالي غير المسبوق. أما في العلم، فيحتاج الإبداع إلى برهنة تجريبية ومنطقية لتأكيد صلاحية الفكرة.
من خلال هذه المقارنة، يوضح الكتاب أن الإبداع عملية تعددية الأدوات والوسائل. سواء أكان المرء عالماً فيزيائياً أم روائياً أم موسيقياً، فهو يوظف آليات عصبية متشابكة تتيح له تشكيل رؤية جديدة للعالم. هذا التنوع هو ما يجعل الإبداع متجذراً في طبيعة العقل البشري، وقابلاً للظهور في ساحات فكرية وجمالية متعددة.
دور الذاكرة واللغة والتصوير الدماغي في كشف أسرار الإبداع
تمنحنا دراسة الذاكرة واللغة رؤية أعمق لآلية تشكّل الأفكار المبتكرة. فالذاكرة ليست مخزناً سلبياً للمعلومات، بل منظومة ديناميكية لإعادة تشكيل المعارف وإعادة دمجها في سياقات جديدة. الإبداع يتطلّب استدعاء معلومات مختلفة، وقدرة الدماغ على “تفقيس” روابط مفاجئة بين عناصر غير مترابطة ظاهرياً. هنا يتجلى دور الذاكرة بعيدة المدى في تقديم مخزون ثري من الأفكار، ودور “ذاكرة العمل” في دمجها لحظياً لإنتاج تصوّرات طازجة.
اللغة أيضاً تسهم في تشخيص الإبداع، إذ تسمح ببناء رموز تمثيلية للأفكار، وصياغة استعارات ومقارنات تفتح آفاقاً غير مسبوقة في فهم المفاهيم. فالقدرة على اللعب بالكلمات والصور الذهنية تيسّر تكوين تركيبات عقلية جديدة. يتجلّى هذا بوضوح عند الشعراء أو المفكرين الذين يستخدمون لغة مجازية لإعادة صياغة الواقع، وعند العلماء الذين يصيغون نظرياتهم في نماذج لغوية تساعد على استيعاب ظواهر معقّدة.
أما التصوير الدماغي فقد ساهم في تقديم أدلّة تجريبية ملموسة على وجود أنماط نشاط مميزة ترافق اللحظات الإبداعية. عندما يشعر المرء بما يُعرف بـ”ومضة البصيرة” (Insight)، يرصد الباحثون تبدّلات في نشاط مناطق معيّنة من الفصوص الصدغية والجبهية. تلك المعطيات التجريبية تدعم التفسيرات النظرية، وتتيح لنا رؤية “حيّة” لعمل الدماغ وهو يعيد ترتيب الأفكار ويرسم مسارات جديدة في شبكة معقّدة من الخلايا العصبية.
نحو فهم أعمق للإبداع وتطبيقات مستقبلية
يصل الكتاب في ختامه إلى نتيجة محورية: الإبداع ظاهرة متعددة الأوجه، تتداخل فيها العوامل البيولوجية والمعرفية والوجدانية والثقافية، وتتجلّى في مجالات متنوعة. هذا الفهم المعمّق يفتح الباب أمام تطبيقات عملية عديدة. فمن خلال فهم آليات الإبداع، يمكن للتربية أن تعمل على تنمية القدرة على التفكير النقدي والتصوري لدى الأطفال. ويمكن للمؤسسات التعليمية والبحثية توفير بيئة تحفّز الجرأة الفكرية، وتحتضن الأفكار غير النمطية، وتشجع على تبادل الخبرات المتنوعة.
كما قد يساعد هذا الفهم مؤسسات الابتكار التكنولوجي والصناعي على صياغة بيئات عمل مرنة، وفرق متعددة التخصصات، تشجع العاملين على استثمار تنوّع أفكارهم. في السياق نفسه، يمكن استخدام نتائج الأبحاث العصبية للتعامل مع المشكلات النفسية التي قد تواجه المبدعين، من خلال فهم أفضل للعوامل التي تؤثر على تذبذب المزاج والحالة العاطفية، وتقديم دعم يساعد على تحويل التوتر والقلق إلى طاقة ابتكارية إيجابية.
يخلص القارئ، بعد الاطلاع على هذا الاستعراض، إلى أنّ “الدماغ الخلّاق” لا يقدّم إجابات نهائية لكل الأسئلة، لكنه يضع أساساً علمياً متيناً لفهم أعمق للإبداع. إنّ إدراكنا بأن الأفكار الجديدة ليست مجرد خواطر عابرة، بل نتاج عمليات عصبية منظمة ومرنة، يجعلنا أكثر قدرة على توجيه قدراتنا نحو تطوير معارفنا وحل مشكلاتنا. بهذا، لا يظل الإبداع لغزاً مغلقاً، بل يتحول إلى حقل معرفي قابـل للدراسة والتحليل، وأداة أساسية لدفع عجلة الحضارة إلى الأمام.