لا يكفي أبدًا: عندما تصبح ثقافة الإنجاز سامة

Picture of كتابة: جينيفر بريهيني.
كتابة: جينيفر بريهيني.

ترجمة: يارا عمار

جينيفر بريهيني والاس صحفية حائزة على جوائز في الصحافة المطبوعة والمرئية، ومساهمة منتظمة في صحيفتَي وول ستريت جورنال وواشنطن بوست. بدأت حياتها المهنية ببرنامج “60 Minutes” على قناة CBS، وكانت ضمن فريق نال جائزة روبرت ف. كينيدي للتميز في الصحافة. كما أنها عضو في مجلس إدارة منظمة الائتلاف من أجل المشردين في مدينة نيويورك.

تستعرض جينيفر في هذه المقالة خمس أفكار رئيسية من كتابها الجديد “لا يكفي أبدًا: عندما تصبح ثقافة الإنجاز سامة – وماذا يسعنا فعله حيال ذلك”.

  1. عدم شعور المرء بأهميته أصلٌ لكثير من المعاناة

تتصدر الصحة النفسية للأطفال قائمة مخاوف الآباء. إن القلق والوحدة والاكتئاب وباء مدمر ينتشر بين الشباب في وقتنا الحالي، لدرجة أنه دفع طبيب الجراحة العامة (فيفيك مورثي) إلى إصدار تحذير صحي عام بخصوص هذا الموضوع. لاحظ مورثي أن صحة الشباب النفسية تتأثر بعوامل كثيرة، بدءً من التركيب الجيني إلى القوى الاجتماعية الأكبر، مثل الرسائل الثقافية التي تُضعف الشعور بالقيمة الذاتية- بغرس شعور لدى الشباب بأن شكلهم ليس حسنًا بما فيه الكفاية، أو أنهم ليسوا مشهورين بما فيه الكافية، أو ليسوا أذكياء بما فيه الكفاية، أو ليسوا أغنياء بما فيه الكفاية.

وفي صميم هذا الشعور “بعدم الكفاية” يأتي ما يسميه علماء النفس بالحاجة إلى الشعور بالأهمية، أي الاعتقاد الشخصي بأن قيمتنا تكمن في جوهرنا، بعيدًا عن أي إنجازات خارجية. أظهرت الأبحاث المتزايدة منذ ثمانينيات القرن الماضي أنّ الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى عال من الشعور بالأهمية -يشعرون بقيمتهم وأن الآخرين يعتمدون عليهم لإضفاء قيمة على حياتهم- هم الأكثر عرضة للازدهار في مرحلتَي المراهقة والبلوغ. لكننا اليوم نواجه عجزًا في الشعور بالأهمية داخل الأسر المعيشية والمدارس وأماكن العمل والمجتمعات بأكملها. إلا أنّ الجانب الإيجابي هو أن الشعور بالأهمية يعد أساسًا قويًا لحماية صحة الشباب النفسية.

إن مفهوم الأهمية بسيط بقدر ما هو عميق، فهو يطرح أسئلة تشغل الجميع: هل الناس يشعرون بقيمتي ويقدّرونني ويحترمونني، أم أنني غير مرئي؟ هل أنتمي إلى هذا العالم، أم أنني وحيد فيه؟ هل حياتي مؤثرة في حياة الآخرين، أم أنّها عديمة الأهمية؟

يعبر مفهوم الأهمية عن الحاجة العميقة والعالمية لأن نشعر بأن مَن حولنا يروننا ويهتمون بنا ويقدروننا. إنّ الشعور بأهميتك الذاتية قوةٌ أساسية ودرع تحميك من الضغوطات الخارجية.

  1. علينا أن نساعد الأطفال على الفصل بين قيمتهم الذاتية وإنجازاتهم لكي يشعروا بأهميتهم

سعيت في البحث عن الأشخاص المجتهدين والصحيين لمعرفة القاسم المشترك بينهم: ما الذي ركز عليه آباؤهم في المنزل؟ كيف كانت طريقة تفكيرهم وسلوكياتهم وعلاقاتهم؟ اتضح أنهم جميعًا كانوا يشعرون بأهميتهم داخل أُسرهم ومدارسهم ومجتمعاتهم الأوسع. إننا في عالم يجعلنا نشعر بالنقص دائمًا، والشعور بالأهمية يطمئننا بأن قيمتنا تكمن في ذواتنا، بغض النظر عما نفعله.

وللتوضيح: الأهمية لا تتعارض مع الأداء، بل تعد وقودًا له. فعندما نشعر بأهميتنا نميل إلى المشاركة بشكل إيجابي وصحي في أُسرنا ومدارسنا ومجتمعاتنا. لا يكفي أن نحب أطفالنا حبًا غير مشروط، بل يجب أن يشعروا بذلك. يجب أن يعلموا أنّ أهميتهم وقيمتهم ليست موضع نقاش أبدًا.

أخبرني أحد الآباء الحكماء بطريقة لتوضيح فكرة الحب غير المشروط والأهمية: أخرج ورقة نقدية من محفظتك واسأل طفلك إن كان يريدها. ثم جعّدها وارمها على الأرض، ثم اغمرها في كوب من الماء، ثم أمسك هذه الورقة المجعدة والمبللة واسأل طفلك “هل ما زلت تريدها؟”. بعد ذلك قل له بوضوح: إنّ قيمتك لا تتغير مثل هذه الورقة النقدية، سواء استُبعدتَ من الفريق أو حصلت على درجة سيئة أو شعرت أنّ صديقًا لا يقبلك. قيمتك هي قيمتك، ثابتة لا تتغير أبدًا.

  1. مساعدة الطفل تبدأ بمساعدة مَن يعتني به

في الماضي، ركز علماء النفس المهتمون بمساعدة الأطفال المتعثرين على تدخلات معينة: مثل وضع قيود صارمة لكن معقولة، أو الحنوّ على الطفل دون تدخل، أو تقديم ملاحظات صادقة دون انتقاد. لكن تبيّن أنّ التأثير الأكبر على الطفل لا يأتي من قائمة الأوامر والنواهي، بل أهم شيء أن يكون البالغون في حياة الطفل أسوياء نفسيًا، ولديهم مصادر دعم قوية وموثوقة. يقول علماء النفس إن هذا التوجيه قلب تطور الطفل رأسًا على عقب، فصارت مساعدة الطفل تبدأ بمساعدة مَن يعتني به.

إن الآباء هم “المستجيبون الأوائل” للصعوبات التي يواجهها أطفالهم، والاهتمام المستمر بمشاعرهم المتقلبة والضغوطات الاجتماعية والأكاديمية يمكن أن يحدث أثرًا سلبيًا. كل الطرق التي تعرّضنا لضغوط مفرطة -المواعيد النهائية للعمل، الأعباء المالية، تلبية كل احتياجات أطفالنا- يمكن أن تُضعف قدرتنا على أن نكون آباء حساسين ومتجاوبين، وتجعلنا أقل تفهمًا للإشارات العاطفية لأبنائنا. الخطر هنا هو أن أطفالنا يمكن أن يسيئوا تفسير الإجهاد الذي نشعر به وعدم صبرنا، فيعتقدون أن المشكلة تكمن فيهم. لاحظ الباحثون أنّ عدم شعور الفرد بأهميته ينبع غالبًا من الأفعال الصغيرة التي تتراكم يوميًا.

لا يحتاج الأطفال آباءً يبالغون في التضحية الذاتية، بل يحتاجون آباء لديهم رؤية متوازنة لثقافة الإنجاز المشحونة المحيطة بهم. إنهم بحاجة إلى آباء يتمتعون بالحكمة والطاقة والسعة النفسية لتحدي القيم غير الصحية لثقافة الإنجاز. قد يبدو الأمر غير منطقي، لكن الحقيقة أننا يجب أن نعتني بأنفسنا أولًا حتى نعتني بأطفالنا، لأن مرونة الطفل تعتمد على مرونة من يقوم على أمره.

  1. المرونة تعتمد على العلاقات

ليس مفتاح المرونة هو “الوقت الشخصي” الذي يروّجه مجال العناية بالنفس بمليارات الدولارات للآباء المتعبين. بل وجدت الأبحاث أن المرونة تعتمد على قوة علاقاتنا: هل لدينا علاقات ثرية تجعلنا نشعر بالحب والاهتمام والرعاية، كما نحاول مع أطفالنا؟

كما أنّ مرونة الطفل تعتمد على مرونة أبويه، كذلك مرونة الأبوين تعتمد على عُمق علاقاتهم والدعم الذي يحصلون عليه منها. إن الصداقات العميقة بمثابة ممتصات للصدمات، حيث تساعد في تخفيف الضغوطات اليومية، وتقليل القلق، وتنظيم المشاعر. لكن في عصرنا الحديث المزدحم لا يجد الآباء غالبًا الوقت أو القدرة العاطفية لتعميق روابط الصداقة وحميميتها. يكاد يكون محالًا أن تلتقي بصديق لتناول القهوة سويًا أو للحديث عن مخاوفك بسبب المتطلبات الكثيرة للأبوّة- كمساعدة الأطفال في أداء الواجبات المنزلية أو طهي الطعام أو مراقبة وقت الشاشة.

وجد الباحثون أنّ الناس لا يحتاجون إلى قضاء ساعاتٍ سويًا لبناء صداقات أصيلة، بل يحتاجون إلى وقت مخصص ورغبة في الانفتاح. انظر إلى مدى دقة التخطيط في جدول أسرتك، سواء في ترتيب وقت للعب أو موعد لطبيب أسنان طفلك. ماذا لو أعطيت نفس هذا القدر من الاهتمام للصداقات التي تدعمك؟ غالبًا ما يفترض الناس أن الصداقات تحدث تلقائيًا، وهذ الاعتقاد الخاطئ يُثنينا عن السعي لإقامة علاقات عميقة ورعايتها.

  1. نحن جميعًا نبحث عن دليل اجتماعي يثبت أهميتنا

يميل الآباء إلى التركيز على يُقال إنه الهدف النهائي: تنشئة أطفال مستقلين ومعتمدين على أنفسهم. تعزيز الاستقلالية أمر مهم بلا شك، لكن هناك درس أهم يجب أن نعلمه أطفالنا إن كنا نرغب في حماية صحتهم النفسية: وهو الاعتمادية المتبادلة، أي كيفية الاعتماد على الآخرين واعتماد الآخرين عليهم بطرق صحية. يدرك الآباء الذين يعلّمون أطفالهم مهارات الاعتمادية المتبادلة قدرَ الشجاعة اللازمة لطلب الدعم وقبوله. إنهم يدربون أطفالهم على دورة الكرم: كما أن مساعدة الآخرين مهمة، كذلك علينا أن نكون مستعدين لمرور بأوقات ضعف وقبول هذا الدعم. الاعتمادية المتبادلة توفر للأطفال فرصًا لإشباع الشعور بأهميتهموتقدير أهمية الآخرين.   

كثير من الناس ليس لديهم إحساس قوي بأهميتهم، فيشككون فيها وفي وقيمتهم، وهذا ينعكس على سلوكهم ويظهر في صور عدة، كالمنافسة الشديدة والتصرفات غير اللائقة والغضب. لا يمكن أن نشعر بأهميتنا إلا من خلال علاقاتنا مع الآخرين. من السهل للغاية أن نغفل عن أهميتنا، ولذلك نحتاج إلى مَن يخبرنا ويذكّرنا ويؤكد لنا قيمتنا الجوهرية، ويحتاج الآخرون أيضًا إلينا لتذكيرهم بأهميتهم. تخيل كيف سيكون العالم إن أدرك الناس أنهم ذوي أهمية حقيقية وعميقة ومؤكدة لأسرهم وأصدقائهم ومجتمعاتهم؟ الأمر في متناول أيدينا، لا نحتاج سوى الشجاعة للاعتراف بأهميتنا وتأكيد أهمية الآخرين في حياتنا.

المصدر

 

شارك الصفحة