كنت أتصفح أمازون يومًا ما، فاقترح لي الموقع كتابًا بغلاف أسود مع صورة بومة عنوانه “الفضول”. انتابني الفضول بطبيعة الحال: كتاب كامل عن الفضول؟ ماذا عساه أن يُقال؟ وبعد 45 ثانية تقريبًا كنت شرعت في قراءته. كان الكتاب ممتعًا، مليئًا بالقصص واستعراضات الأبحاث والحكايات التاريخية. كما كان زاخرًا بالاقتباسات الثرية، سواء للمؤلف نفسه أو لغيره ممن كتب عن نفس الموضوع على مر القرون، وستقوم المراجعة على هذه النقولات.
تصنيف الفضول
الفضول ليس نوعًا واحدًا، لكنه كما يذكر إيان ليزلي على ثلاثة أنواع، تتميز بناءً على السياقات التي تنشأ فيها، والسلوكيات التي تستحثها.
الفضول المشتت: وهو الانجذاب لكل ما هو جديد. يُظهر البشر هذا النوع من الفضول عند تصفّح إكس مثلًا أو تقليب قنوات التلفاز 30 مرةً في الدقيقة، وهو ليس مجرد فضول سطحي عديم الفائدة، لكنه نقطة الانطلاق التي تدفعنا لخوض تجارب جديدة والتعرف على أناس جدد، وتمهّد الطريق لنوعَي الفضول الأعمق.
الفضول المعرفي: يظهر هذا النوع من الفضول عندما يُصقَل الفضول المشتت ويتحول إلى سعي للمعرفة أو الفهم، وهو “أعمق” وأكثر انضباطًا ويتطلب جهدًا أكثر من النوع الأول حيث يهدف إلى فهم العالم. يستخدم علماء النفس مفهوم “الحاجة إلى الإدراك” مقياسًا للفضول الفكري: ذوو المستوى العالي يزدهرون ويستمتعون بالتحديات الفكرية، بينما ذوو المستوى المنخفض يفضّلون أن تكون حياتهم العقلية بسيطة قدر الإمكان.
الفضول التعاطفي: وهو الدافع لفهم أفكار الآخرين ومشاعرهم، ويمكن تحقيقه بتعلم وضع أنفسنا مكان الآخرين.
تاريخ الفضول
يأخذنا ليزلي في جولة عبر تاريخ الفضول المتقلّب على مر القرون: ففي بعض العصور كان يُنظر إليه بازدراء، ولم تحدث ابتكارات تُذكر في تلك الأوقات. وفي عصور أخرى -كعصر النهضة على سبيل المثال- انتشر الفضول التعاطفي والمعرفي انتشارًا واسعًا، مما أدى إلى طفرة ثقافية.
وما زال الرأي العام حول الفضول متضاربًا حتى الآن: فنحن نحذر ونقول “الفضول يقتل صاحبه”، ونصف الشخص بأنه فضولي عندما يتصرف بغرابة، ونركز في التعليم على المهارات العملية أكثر من أي شيء. وفي الوقت ذاته تجد سوقًا لبيع مثل هذه الكتب التي تشيد بهذه السمة، بل تزعم أن “حياتك تعتمد عليها”.
كيف يؤثر الإنترنت على فضول المجتمع؟ يوفر الإنترنت ثروة من المعلومات في متناول أيدينا حرفيًا، مما يتيح للفضوليين بطبيعتهم البحث والاستكشاف بلا حدود، وهو ما يفعله الكثير. لكن الذين لديهم مستوى أقل من “الحاجة إلى الإدراك” قد يستخدمون الإنترنت بطريقة تكبح فضولهم، وهو ما يفعله الكثير أيضًا. يمكن عادة الإجابة على أي سؤال: مَن/ما/متى/أين، بكتابة عبارة موجزة على جوجل، والنقر على نتيجة البحث الأولى دون قراءتها، والمرور سريعًا على جملة أو اثنتين من صفحة الويب. هذا النوع من البحث عن المعلومات لا يتطلب جهدًا، وبالتالي فلا ينشّط العمليات العميقة المرتبطة بالفضول الحقيقي. يكرر ليزلي هذا الموضوع كثيرًا: على الرغم من الإمكانات العظيمة التي يوفرها الإنترنت لتوسيع آفاقنا وتبادل أفكارنا بسرعة غير مسبوقة، فإنه -إن لم نحذر- قد يقمع فضولنا مما يلحق بالمجتمع ضررًا بالغًا.
تشبيهات الفضول
الأحاجي والألغاز: ينسب ليزلي هذا التمييز إلى غريغوري تريفيرتون الخبير في الأمن والاستخبارات. يقول إن بعض المشكلات كالأحاجي:
“لها إجابات محددة… ومنظمة، لها بداية ونهاية. وبمجرد اكتشاف المعلومات المجهولة، فلا تعد أحجية بعد الآن. يُستبدل الشعور بالرضا بالإحباط الذي أصابك وأنت تبحث عن الإجابة. أما الألغاز فهي أشد غموضًا وأقل ترتيبًا، إذ تطرح أسئلة لا يمكن الإجابة عليها إجابةً قاطعة لأن الإجابات تعتمد غالبًا على مجموعة من العوامل شديدة التعقيد والتداخل، وقد تكون معلومة أو غير معلومة… الأحاجي تسأل غالبًا عن الكم أو المكان، أما الألغاز فتسأل عن السبب أو الكيفية.”
فقراءة رواية بوليسية أحجية أيضًا، لأنه بمجرد الانتهاء منها تعرف مَن فعل ماذا وتحَل المشكلة. أما رواية مثل (غاتسبي العظيم/ The Great Gatsby) فهي لغز لأنها تجعلك تفكر في أسئلة ليس لها إجابات محددة، مثل الطابع الحقيقي للحلم الأمريكي.
يُنسب إلى الشاعر اليوناني أرخيلوخوس فكرة أنّ “الثعلب يعلم أشياء كثيرة، أما القنفذ فيعلم شيئًا واحدًا مهمًا” ومن هنا يشجعنا ليزلي على الجمع بين صفتَي الثعلب والقنفذ، فهذا هو الحل الأوسط لمسألة ما إذا كان الأفضل أن نكون مثقفين بوجه عام، أم خبراء في مجالات محددة. ينتج عن الجمع بين الأمرين معرفةً يمكن تشبيهها بشكل الحرف T: يمثل الجزء الأعلى منه المعرفة السطحية، والجزء الآخر العمودي والطويل والنحيل يمثل المعرفة المكثفة في مجال واحد على الأقل. بعبارة أخرى “المتعلمون الفضوليون يتعمقون ويتوسعون.”
مرونة الفضول
يؤكد ليزلي أن “فضول الإنسان حالة أكثر من كونه سمة”. ذلك يعني أنه رغم أننا نولد بدرجات مختلفة من “الحاجة إلى الإدراك”، فإن الفضول يتأثر ببيئتنا المحيطة بشدة.
للأسئلة أهمية بالغة لأنها إحدى أدوات اكتساب المعرفة. قد يبدو طرح الأسئلة قدرةً أساسية، إلا أنه في الواقع يتطلب عددًا من المهارات المهمة: يجب أن تعرف أنّ هناك أشياء لا تعرفها، وأن تكون قادرًا على تصور احتمالات مختلفة لما لا تعرفه، وأن تدرك أنّ الآخرين مصدر من مصادر المعلومات. يسأل الطفل بين عمر الثانية والخامسة نحو 40000 سؤال توضيحي. وعندما يتحدث الكبار مع الأطفال ويسألونهم بأنفسهم، يبدأ الأطفال في طرح المزيد من الأسئلة. المغزى من كل ذلك أن طرح الأسئلة على الأطفال يحفزهم على التساؤل أكثر، وهذا إلى جانب اكتساب المعرفة يعلّمهم أن هذا الاستفسار سلوك مثمر.
أهمية الفضول
الفضول يعزز الابتكار. أصبحت أجهزة الحاسوب الآن أذكى من البشر في مهام كثيرة، إلا أنها ليست فضولية، ولهذا السبب يقول ليزلي:
“سيزداد الطلب على الشخص الفضولي بحق. يبحث أصحاب العمل عمن لا يقتصر على مجرد اتباع الإجراءات بكفاءة أو الاستجابة للطلبات، يبحثون عمن لديه رغبة داخلية قوية في التعلم وحل المشكلات وطرح الأسئلة النافذة. قد يصعب إدارة هؤلاء الأشخاص أحيانًا بسبب اهتماماتهم وحماسهم الذي ربما يقودهم إلى مسارات غير متوقعة، وصعوبة توجيه تفكيرهم، إلا أنهم يستحقون الجهد المبذول معهم في الغالب.”
لماذا يتفوق الفضوليون في الابتكار على غيرهم أو على أجهزة الحاسوب؟ لأنهم يتميزون “بقدرتهم الفريدة على إقامة روابط إبداعية بين مختلف المجالات، مما ينتج عنه أفكار جديدة.”
تعرف أنجيلا داكوورث مفهوم grit/ المثابرة بأنه: “القدرة على التعامل مع الإخفاق، والتغلب على العقبات، والتركيز على الأهداف بعيدة المدى”، ثبت أنّ هذا المفهوم مؤشر أساسي من مؤشرات النجاح في جميع مناحي الحياة. سمعت مرةً أستاذين جامعيين يتحدثان عن أنجح طلاب الدراسات العليا، ويقولان إنهم هم الذين يتمتعون بالمثابرة، وقد ظلت محادثتهما تدور في ذهني نحو أسبوع أو أكثر. إن المثابرة والفضول صفتان متلازمتان: فإن كنت فضوليًا فستستمر في التعلم والاستكشاف حتى بعدما تعرف ما أردت تعلمه في البداية. وإن كنت مثابرًا فستواصل المسير حتى وإن ظهرت العوائق في طريقك وازداد الهدف الذي تسعى له صعوبةً.
حتى تكون فضوليًا لا بد أن يكون لديك أساس من المعرفة. يرى جورج لوينشتاين أنّ الفضول ينشأ من إدراك وجود فجوة في المعلومات: عندما تعرف بعض الأمور عن موضوع ما، ثم تدرك أنك لا تعرف كل شيء، لكن يمكن تعلم المزيد. وهكذا تنشأ حلقة إيجابية رائعة: كلما تعلمت أكثر، زادت رغبتك في التعلم.