حقيبة السفر أم حقيبة المصير!

حقيبة السفر ام حقيبة المصير

بعد إفطار خفيف في مطعم وسط فيينا (مايو 2024)، التقطتْ عيني شيئاً مألوفاً لطالما شاهدناه جميعاً مئات المرات، بيد أن عقلي هذه المرة شرع في تفسيره بطريقة غير مألوفة. هذا الشيء هو: جرجرة حقائب السفر للقادمين أو للراحلين، خاصة أنني كنتُ أسكن في منطقة مكتنزة بـ النُزل وغاصة بـ الدرج، التي يعرج عليها أو ينزل منها: السائرون إلى حيث يسكنون أو يرتحلون؛ فإلى أي شيء يذهب هذا التفسير؟!

في تلك اللحظة، اختفت هذه الحقائب فجأة، فلم أعد أراها، واختفى جارُّوها فلم أعد أشاهدهم، وانقلبت هذه الصور إلى رموز جعلتْ تتكاثر في وجداني، ومنها الآتي:

  • “حقيبة السفر” هي “حقيبة العمر”، فنحن في الحقيقة لا نجرجر أشياءنا، بل نجرجر أيامنا، يوماً بعد آخر؛ صوب محطته الموالية: الموت. هنا، يبدو اليوم كأنه قطعة ملابس سنحشرها في حقيبة سفرنا، ولذا فلا مفر من أن نبادر بتنظيف يومنا وتهيئته للسفر. هذا يومئ إلى حقيقة أن أيامنا تتسخ من جراء ولوغنا في الحياة، ومن الأوساخ ما يحتاج إلى مطهرات قوية ومكلفة، ومنها ما تكفيه الغسلةُ السريعةُ، ولو كانت بماء بارد!
  • “حقيبة السفر” هي “حقيبة العمل”. هنا، يبدو العمل كأنه شيء ضروري سيجد مكانه لا محالة في سفرنا، وهو ما يوجب كونه عملاً صالحاً طيباً، إذ لا يليق أن نضع في حقيبة سفرنا السيء أو الفاسد، أو حتى التافه الذي لا قيمة له، بما في ذلك الملابس المتكررة، التي تعود غالباً دون أن نرتديها!
  • “حقيبة السفر” هي على الحقيقة “حقيبة المصير”. تخيل أنك تعد مصيرك كما تعد حقيبة سفرك. إنه المصير أيها السادة والسيدات، لا مجرد محطة عابرة في سفر عابر! إن الشخصية ليست سوى مشروعِ مصيرٍ قيد التحقق. ليس لأحد أن يعهد بمصيره لغيره! لئن كانت الشخصية دالاً ممتلئاً، فإن مدلولها فارغ، وداخل مركب الامتلاء والفراغ تتخلق “كينونةُ المصير”. الشخصية ليست قِرَاناً اعتباطياً بمصير لم يسعَ الإنسان بطواعية إليه، وإنما هي مصير مُتخيّل مُشتهى، سواء كان نبيلاً أو منحطاً.
  • حقائب السفر تتنوع، فمنها الثمين ومنها الرخيص، ومنها الجميل الذي يؤشر على أناقة أصحابها، فلا تحوي إذ ذاك من المتاع إلا أطيبه وأنفسه، على أن الناس يختلفون في المقاصد، فمنهم من يزين حقائبه من أجل الظفر بنظرات الإعجاب، ومنهم من يكون معجوناً بجمال جواني يتغذى على: إن الله جميل يحب الجمال. وبعض الحقائب قبيح في تصميمه، ومنتن في رائحته، ومنفر في شكله.
  • بعض الحقائب صغير لا يكاد يتوفر إلا على “الأساسيات”، بل لا لعله لا يفي ببعضها، وقد يكون مع ذلك مكسوراً فتسقط أمتعة دونما شعور، وبعضها يكون كبيراً وممتداً ومتماسكاً، فيتسع من ثمَّ للأركان وروافدها الدقيقة والجليلة. وبعضها يتوفر على جيوب إضافية، وربما كانت خفية لا يعملها إلا صاحبها، وقد تكون محكمة بقفل منيع!
  • بعض الحقائب ذو عجلات تسهِّل دفعها، ولو كانت الحقائب كبيرة ثقيلة، وبعضها يتوفر على مقبض علوي متين، يمكِّن صاحبها من التحكم بها ودفعها باتجاهات متعددة بحسب الحاجة. وبعضها يفتقر لمثل هذا كله، مما يجعل صاحبها يواجه عنتاً في حملها أو دفعها، وقد يتخفف من بعض أشيائها ولو رماها في سلة المهملات أو على قارعة الطريق، بل قد يتركها ويمضي دونما حقيبة حتى يدرك الرحلة، ويا لها من رحلة!
  • بعض الحقائب مميز بلون أو تصميم أو شكل، وهو ما يسمح بسرعة التقاطه من “سير الأعمال”، فكيف إذا كانت الحقيبة مميزة وفاخرة ومرنة؟ وبعض الحقائب رتيب مكرور يُقعد صاحبَه وقتاً أطول، وقد يجسُّ حقيبة بعد حقيبة ظاناً أنها حقيبته، فإذا عاين الاسم أدرك أنها لغيره، وقد يستل أحدهم حقيبة صاحبنا بالخطأ ويذهب بها، ولا يكون ثمة قدرة على التواصل فتضيع منه ويكمل الرحلة بعنت، وقد يجد أنه قد طُوِّح بحقيبته خارج السير، لأن أحداً التقطها بالخطأ ولم يعدها إليه مرة أخرى، وقد لا يشاهدها بسبب انزوائها خلف شيء ما، متوهماً أنها سُرقت، فيغدو بلا حقيبة هذه المرة أيضاً!

سأكتفي بهذه المشاهد الخاطفة، تاركاً قدراً من الفراغ في النص، لكي يملأه القارئ بمداد خياله. ولعلي ألتفتُ اِلتفاتة سريعة صوب هذا السؤال: لماذا تغيب عنا تفسيراتٌ معمقةٌ في حالات مألوفة؟ ثمة جواب مكثف، ويكمن في الألفة ذاتها، فالألفة حجاب، حيث تحجب عنا شمس التصورات والتفسيرات الجديدة، وذلك أن عَود الظاهرة كرة بعد أخرى، يُوهم أنه ليس ثمة جديد أو جدير بالتأمل، وهنا نقع في الفخ، المتمثل في “بلادة الألفة”. ولهذا وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن “غيمة الألفة”. حينها، سيجد نفسه خارج الأسوار، محلِّقاً في فضاءات رحيبة، ومحدِّقاً في تفاصيل صغيرة، ولعله إذ ذاك أن يصل إلى شفرات ذات بال، ويفك رموزاً ذات قيمة تفسيرية لظاهرة أو أخرى. وأختم بالقول: إن التأمل قراءة للمألوف بحواس مرهفة، وعقل محلِّق محدِّق. وتحلو بذلك جرجرةُ أيامنا صوب مصيرنا، الذي نعده كما نعد حقائب سفرنا!

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ما نوع بنية الدماغ التي يمتلكها مَن يتقن مهارة القراءة؟
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟