لئن كان من محاسن منصات التواصل الاجتماعي على الأدب توفيرها مساحات للتجريب، فإن من مثالبها استسهال الكتابة الأدبية وتصييرها “صيحة” مؤقتة، يشارك فيها الكتّاب بممارسة عفوية غير جادة ولا متواصلة، تبعًا لما هو شائع بين مؤثري الكتابة الأدبية على هذه المنصات.
كان شعر “الهايكو” الياباني صيحةً أدبيةً على تويتر، وصلت ذروتها عام 2017م، تُرجمت قصائد الهايكو من اليابانية والإنجليزية، وجرب الكثيرون كتابة هايكو عربي يحاكي هايكو اليابان قدر المستطاع.
لكني، وربما كثيرون مثلي، لم أستسغ ما قرأته من هذه المحاولات، ولم أستطع الولوج إلى لحظة الاستمتاع بهذا النوع الأدبي المستورد، وقررت التوقف عن محاولاتي لتذوقه والتفاعل معه.
لكن ذلك لم يمنعني من اقتناء كتاب “مهاكاة ذي الرمة: أطروحة الهايكو العربي”، فمؤلفه هو الشاعر حيدر العبدالله، وحيدر ينتمي إلى قلة من شعراء العرب اليوم ممن يملكون مشروعًا شعريًا يعملون عليه بجد ووعي، ويجربون مساحات جديدة دون التخلي عن أصالة شعرهم وجذوره، ودون الاستخفاف بقواعد الشعر العربي وعموده، مع ثقافة شعرية متينه، مما يَعِدُ بتناولٍ عربيٍ جادٍّ مع هذا النوع الشعري الغريب.
ويتلمس قارئ الكتاب جدية حيدر في تناول شعر الهايكو وتجريبه من لحظات الكتاب الأولى وحتى إسدال الستار مع الخاتمة، فالكتاب يسعى إلى وضع أسس نقدية متينة لكتابة “هايكو” عربي، يستلهم الشعر العربي القديم، وهو ما تطلب من حيدر أن يجرد ديوان “ذي الرمة” الذي اختاره مصدر إلهام للهايكو العربي، وأن يلج إلى بنية الهايكو الياباني، والمتمثلة في فلسفة الزن وربطها بالتصوف الإسلامي، وأن يكتب قصائد هايكو عربية ضمن بحور الخليل.
صدر الكتاب أواخر عام 2022م عن دار أدب، في ثلاثمئة صفحة، موزعة على أربعة أبواب، بمراجع تربو على الخمسين، تتوزع بين كتب الطبقات والتراجم، وكتب النقد العربي القديم والجديد، وكتب النقد الغربي، والمصادر العربية القديمة والحديثة المتعلقة بالطبيعة، ودراسات المستشرقين، وكتب الصوفية، وطبعًا ديوان ذي الرمة بمجلداته الثلاث.
إننا أمام كتاب مغامر بلا شك، ولشاعر ينشر كتابًا نقديًا لأول مرة، ولكن الشروط الجادة التي يضعها على عاتقه تعدُ بالكثير، والجميل أنه وفى بوعوده.
أن تغزونا الطبيعة
يختم حيدر كتابه بسطر يقول فيه: “سُئلتُ مرة: لماذا الهايكو تحديدًا؟ فقلت: الشاعر المغامر لا يسأل لماذا. بل يسأل: لمَ لا”.
رغم ذلك فإن حيدر سيأخذنا في الباب الأول إلى اليابان، في جغرافيا الهايكو، ليتعرف على الثقافة التي أنتجت هذا النوع الأدبي، ولا يكتب حيدر نصًا أنثربولوجيًا عن الإنسان الياباني ولغته وطعامه وعاداته وملابسه وطبقاته الاجتماعية، ولكنه سيكتب نصًا أدبيًا عن رحلته إلى اليابان، وكيف نظرت عينا الشاعر إلى التحولات العميقة التي أصابت المجتمع الياباني، وكيف تعاني قمة جبل فوجي وهي تلوّح للناظرين من بين ناطحات السحاب، هذه القمة التي تمثل رمزًا للموضوع الأساسي لشعر الهايكو: الطبيعة.
ومن هنا تغدو الإجابة مبرّرة حين نقول إننا نحتاج الهايكو لنرمم علاقتنا مع الطبيعة، فشعر الهايكو شعرٌ وصفيٌ خالص، لا يستعمل المجازات والتشبيهات، وينحي الشعور بعيدًا، ولا يقصد غير وصف ما يراه الشاعر، فالعدسة مركزة على جزء محدد من المشهد، والشاعر لن يكتب إلا عن وصفه.
لذلك فإن حساسية الهاكي للمشهد الطبيعي ستنمو من جديد، وسيعود إلى معاجم اللغة العامة والمتخصصة في الحيوانات والنباتات والجبال والطقوس والمظاهر الطبيعية، وبذلك تنشأ بينه وبين الطبيعة صلاتٌ تنبع من التأمل، والتخفف البلاغي، وتنحية الأنا والعواطف، وبعث الحياة في شبكة لغوية ميتة متعلقة بوصف الطبيعة، وكما يقول حيدر:
“لا يُراد للهايكو أن يكون غزوًا بشريًا للطبيعة، بل غزوًا طبيعيًا للبشرية”.
شاعر الفلوات
بالإضافة إلى ذلك فإن شعر الهايكو على طريقة حيدر يمنحنا صلةً بالأدب العالمي، ويجدد علاقتنا المهترئة بالشعر القديم.
ولا أدري هل قاد الهايكو شاعرنا إلى ذي الرمة، أم أن شعر ذي الرمة قاده إلى الهايكو، ولكن في كلا الاحتمالين دلالة على نوع القراءة الغني الذي سلكه حيدر في قراءة ديوان ذي الرمة، وهو ما جعله ينفض الغبار عن شاعر أُهمل من قديم الزمان، حين كان الناس ولا يزالون يتناقلون نقائض معاصريه: جرير والفرزدق.
يجد حيدر في ذي الرمة وشعره (ولا أقول شعره وحده) فرصةً لكتابة هايكو عربي موصول بالتراث الشعري العربي، مما يجعل التجربة الجديدة مبنية على تراكم يمنحها احتمالات أكثر للوصول إلى ذوق المتلقي العربي، وتمنح في الوقت نفسه الشاعر كنزًا هائلًا من ثقافته يستلهم منه مسارات لشعريته الجديدة.
وفي شعر ذي الرمة سمة موجودة عند هكاة اليابان، وهي معرفتهم العميقة بالطبيعة ومحبتهم الغامرة لها، وانسجامهم مع ما قد نسميه محاسنها ومثالبها. يختلف وصف ذي الرمة عن وصف غيره من الشعراء قديمًا وحديثًا، الذين يتخذون الطبيعة وسيلةً للتعبير عن آمالهم وآلامهم، أو موضوعًا يتغنون فيه بمباهجها، بينما يقول حيدر عن علاقة ذي الرمة بالطبيعة:
“إنّ تفوّق ذي الرمّة عليهم يكمن في قدرته على احتواء الطبيعة احتواءً موضوعيًا، غير مشروط ولا انتقائي. تحضر الطبيعة عند ذي الرمّة بكامل هكذائيتها، بجدبها وربيعها، وحلوها ومرّها، ومباهجها وأهوالها، وشتائها وقيظها، دون أن يضع نفسه في مركزها، أو يجعلها فرعًا عن ذاته”.
لقد صاحب ذو الرمة الطبيعة وصادقها وتقبلها بكل ما فيها، وكان الوليد بن عبدالملك قد سأل الفرزدق عن أشعر الناس فقال أنا، قال أفتعلم أحدًا أشعر منك؟ قال لا، إلا أن غلامًا من بني عدي بن كعب يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات!
بحثًا عن الإيقاع
ينقد حيدر بجرأة شديدة وبالأسماء تجارب الهكاة العرب، وهي في نظره “لا تعدو كونها تمارين على كتابة هذا الشكل العربي الجديد، وتنم في معظمها عن قصور في فهم مقومات الهايكو الياباني، وعدم إدراك لإمكانات تبيئته عربيًا، مع المحافظة على شروطه الفنية قدر الإمكان”.
وينقل عن محمد عظيمة تبريره لإخفاق الهايكو العربي، حين نظر له الكتّاب كشكل أدبي قصير لا يحتاج إلى أي براعة لغوية، وهو ما يذكرني بتجارب الأدباء العرب مع القصة القصيرة التي يمكن الحكم على أكثرها بالتواضع دون أي تردد، والظريف أن حيدر انتقد محاولات عظيمة نفسه في كتابة الهايكو وإدراك جوهره.
يُعرّف حيدر العبدالله شعر الهايكو بأنّه: “نصٌ شعريٌ متصوّف، يربط الطبيعة بالإنسان، ويُقال في نفسٍ واحد”، وقد شرح في الكتاب البنية الصوفية التي يرتكز عليها الهايكو الياباني ومثيله في التراث العربي، وانعكاسه على الصيغة اللغوية البسيطة لشعر الهايكو، كما تكلم باستفاضة عن موضوع الهايكو وعلاقته باختيار ذي الرمة والقرائن الموسمية المتعلقة بفصول السنة الأربعة التي تساعد على الاتصال بالطبيعة، ولكن ماذا عن النفَس الواحد؟
يعد التنفس واحدةً من أهم أدوات الصوفي الياباني في الوعي باللحظة وتنمية مدركاته، وكان الهايكو قد نشأ في المعابد البوذية الصوفية، وبتراكم التجارب اختاروا أن توزن قصيدة الهايكو بسبع عشرة حركة صوتية هي ما يُمكن للنفس الواحد احتماله.
قام حيدر بتطبيق هذه التقنية الإيقاعية على العروض العربي المتمثل في بحور الخليل، وقدم نموذجًا تطبيقيًا من شعر الهايكو لكل بحر من هذا البحور موضحًا تفعيلاته وكأنك في محاضرة لمادة العروض. ولا يقصد حيدر بإصراره على الهايكو الموزون تعقيدَ كتابة الهايكو، بل وضع إطار شكلي محدد للهكاة العرب، يصرفهم للاهتمام بالمحتوى الشعري دون الانشغال بشكله، يقول حيدر: “من شأن تنظيم الهايكو أن يُريح الهكاة العرب، ويُفرّغهم لخوض تجربة شعريّة مطمئنة، حين يتّكئون على بحر معين، سبق لهم أن أتقنوه وتمرنوا عليه في نصوصهم الغنائية”.
وبادر حيدر بنفسه، فهاكى ديوان ذي الرمة، وكتب مستلهمًا من شعره مئة قصيدة هايكو، مضبوطةً بتفعيلات الخليل، تاركًا للنقاد حرية تقييم تجربته بعد أن ضبط لهم أدوات قراءتها ونقدها.
وهذه نماذج من أجمل ما هاكه حيدر من شعر ذي الرمة:
قال ذو الرمة:
تبسّم لمحَ البرقِ عن مُتَوضّحٍ
كنورِ الأقاحي شافَ ألوانَها القطْرُ
يشبّه ذو الرمة ثغر حبيبته بزهرة الأقحوان، وهي البابونج، حين يغسل المطر بتلاتها، فيقول حيدر مهاكيًا:
الأرضُ تحسو
رشفتيْ بابونجٍ
بعد المطرْ
قال ذو الرمة:
لانَتْ عريكتُها من طولِ ما سمعَتْ
بينَ المفاوِزِ تنآمُ الصدى الغَرِدِ
يصف ذو الرمة الناقة وهي تُسرع في مسيرها بتأثير صوت البوم الذي يُعجبها، فيقول حيدر مهاكيًا:
ناقةٌ تطربُ للبومِ
فتنداحُ
خُطاها
ولئن كنا نرقب قصيدة جديدةً من حيدر كل فترة، فما أحرانا بانتظار كتابٍ نقديٍ جديد منه، لا تنقص لغته الجمال، ولا تعوزه الجدية، ولا تمنعه الثرثرة المتكاثرة من التجديد.