يرصد المؤرخون تحولات البشر من خلال أحداث كبرى، تصبح الحياة بعدها مختلفة عما قبلها، سواء كانت هذه الأحداث سياسية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو غير ذلك. في القرن السابع عشر للميلاد، كان فرنسيس بيكون (ت: 1626م)، الفيلسوف الإنجليزي المعروف، قد حدد ثلاثة ابتكارات غيرت حياة البشرية، وهي الطباعة والبارود والبوصلة، إذ يقول بأنها “غيرت كل الأشياء في كل أنحاء العالم“، ولعلك قد وقفت على مثل هذه الاقتباسات التي تعظّم من أثر المطبعة في حياة أوروبا تحديدًا، وأثر غيابها في تأخر العرب والمسلمين، لكن الباحث الأمريكي جوناثان بلوم، قد جادل في كتابه “الورق قبل الطباعة: تاريخ الورق وتأثيره في العالم الإسلامي” بأن الورق كان الاختراع الأكبر في تاريخ البشرية، موافقًا في ذلك المستشرق النمساوي ألفريد فون كريمر حين قال بأن ازدهار النشاط الفكري الذي أتاحه الورق قد “افتتح عهدًا جديدًا للحضارة الإنسانية“.
صدر كتاب بلوم مترجمًا إلى العربية في هذا العام 2021م عن دار أدب للنشر والتوزيع بالشراكة مع مركز إثراء التابع لأرامكو، وقد ترجمه أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور أحمد العدوي، ونشر بعنوان “قصة الورق: تاريخ الورق في العالم الإسلامي قبل ظهور الطباعة” في أكثر من 400 صفحة. يرصد الكتاب رحلة الورقة من لحظة اختراعها في الصين، حتى وصولها إلى أوروبا، بعد أن تقضي حقبًا طويلةً في العالم الإسلامي الذي عمل على تطوير تقنيات تصنيعها، وتعميم استخدامها، مؤثرةً في واقع المعرفة داخل الحضارة الإسلامية.
يتوزع محتوى الكتاب على سبعة فصول، وفصل أخير يعرض فيه المؤلف قائمة الكتب التي يُحيل إليها في متن الكتاب، إذ خلت هوامشه الإحالات والملاحظات، وهي تضحية مؤثرة وغريبة، لصالح تعليقات عرضية في جوانب الصفحات، تضمنت التوضيحات الفنية الإثرائية التي قد تعرقل استرسال القارئ، ومثّل هذا الأمر تحديًا لمترجم الكتاب، الذي واجه عشرات الاقتباسات والإحالات من غير هوامش تحدد الكتب والصفحات، باذلًا جهدًا كبيرًا لنقل الاقتباسات كما هي في أصلها العربي، فضلًا عن ترجمته الرائعة للكتاب.
رهبانٌ وبيروقراطيون
عرف البشر حوامل مختلفة للكتابة، مثل الرق، والبردي المصري، وأشرطة الخيزران، والأقمشة الحريرية، وغيرها، ولكن التحديات التي واجهت الكتابة عليها لم تسمح لها بالتطور، والتأثير في حياة البشر، فقد كان التزوير على بعض هذه الحوامل سهلًا للغاية، والبعض الآخر كان يتعرض للتلف سريعًا، غير الكلفة العالية التي كان يتطلبها تجهيز المادة الخام للكتابة، فعلى سبيل المثال، كانت النسخة الواحدة من الكتاب المقدس تتطلب ذبح بضع مئات من الماشية!
اُخترع الورق بالصين في القرن الثاني قبل الميلاد، وكان يستعمل في البداية للتغليف، إذ كان سطح الورق أول الأمر خشنًا للغاية ولا يسمح بالكتابة عليه، ثم تطورت صناعة الورق شيئًا فشيئًا حتى أمست الورقة الصينية ملائمة للكتابة عليها بعد قرن تقريبًا، ليتوسع استعمالها في الكتابة والرسم والطباعة بالقوالب الخشبية، بل واستعملت مناديل للمراحيض، فينقل المؤلف عن رحّالة عربي في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي قوله عن الصينين الذين زارهم في رحلته المسمّاة “عجائب الدنيا وقياس البلدان:
“وليس لهم [يعني أهل الصين] نظافةٌ، ولا يستنجون بالماء إذا أحدثوا، بل يمسحون ذلك بالقراطيس الصينية“.
لعبت الصين دورًا أساسيًا في نشر الديانة البوذية، وساهم المبشرون البوذيون بدورهم في نقل صناعة الورق إلى مختلف أرجاء آسيا، وقد تعرف المسلمون أول الأمر على الورق في أنحاء آسيا الوسطى، وهي المنقطة التي وصل إليها الورق بعد خمسة قرون من اكتشافه في الصين، بينما نقل المسلمون الورق إلى شواطئ الأندلس بعد نحو قرنين، وهو ما يلفت الانتباه إلى الاستجابة السريعة التي تعاملت بها الحضارة الإسلامية مع هذا الاكتشاف المهم، خاصةً إذا قارنّا ذلك بحال الامبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، وعدم معرفتهما بالورق قبل الإسلام، على الرغم من مجاورتهما لطريق الحرير الذي كان الرهبان البوذيون يرتحلون عبره، مبشرين بالبوذية والورق في آن معًا.
يفند بلوم الرواية التاريخية التي تقول بأن المسلمين تعرفوا على الورق من خلال مجموعة من الأسرى الصينيين في معركة طلاس، ويؤكد على النشأة البيروقراطية لاستعمال الورق في البلاط العباسي، حين أسس هارون الرشيد أول مصنع للورق في بغداد عام 178هـ/795م، لتوفير حاجة دواوين الدولة من الورق، الذي حلّ محلّ أوراق البردي والرقّ، أما عن لحظة الاستبدال هذه، فينقل جوناثان بلوم اقتباسًا مهمًا من مقدمة ابن خلدون حين يقول:
“[فأشار الفضل بن يحيى] بصناعة الكاغد وصُنعه، وكتبَ فيه رسائل السلطان وصكوكه، واتخذه الناس –من بعده– صُحفًا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية، وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت“.
من هو الفضل بن يحيى؟ كان الفضل بن يحيى البرمكي وزيرًا لهارون الرشيد وأخًا له من الرضاعة، وهو ينحدر من سلالة عملت في البلاط العبّاسي، حين أسلم رئيسها خالد بن برمك، والتحق بالخليفة أبي العباس السفاح، متوليًا النظر في ديوان الجيش والخراج، ومؤسسًا لواحدةٍ من أهم الأسر التي ساندت العباسيين قبل نكبتهم الشهيرة. أما برمك، الذي تُنسب له العائلة، فكان كبير كهنة معبدٍ بوذيّ في مدينة بلخ، شمال أفغانستان اليوم، وهو ما يعني أن الفضل بن يحيى البرمكي قد عرف فضل الورق على سائر حوامل الكتابة من خلال خبرة أسلافه، وساهمت المسؤوليات الإدارية والسياسية التي أُنيطت بكاهل الأسرة في تقديرهم للورق، الذي كان أقل ثمنًا وأكثر مرونةً من ورق البردي والرق، فضلًا عن صعوبة محو ما يُكتب عليه دون ترك أثر يسهل اكتشافه، وهو ما قلل عمليات التزوير.
يرصد الكتاب الرحلة المثيرة التي انتقلت فيها صناعة الورق بين حواضر العالم الإسلامي، ابتداءً من فارس وآسيا الوسطى، وحتى المغرب والأندلس، مرورًا بالعراق والشام ومصر، وما أدخلته كل واحدة من هذه الحواضر من التقنيات والتطويرات على صناعة الورق، سواء في المواد الخام، أو حجم الورقة، أو شكل الأسطح وملمسها، واضعًا على جنبات الصفحات نماذج لمخطوطات مبكرة ومتأخرة لكل إقليم، في صور بالغة الجودة والجمال.
الورقة والخط والمداد
واصل صُنّاع الورق تطويراتهم على سطح الورق، حتى أنتجوا آخر الأمر الورقة البيضاء الأكثر نعومةً والأعلى جودةً على الإطلاق، وهي التي سمحت للخطّاطين إظهار قدراتهم الفنية بكتابة مصاحف في خطوط دقيقة ورقيقة، وكان ذلك بالتزامن مع تطوير الكتابة باللغة العربية، وابتكار أحبار تتناسب مع الورق الجديد.
يكشف بلوم عن الأزمة الأساسية التي كانت وراء تطوير الخط العربي، فالإملاء العربي سابقًا يعاني من مشكلات كثيرة، كانت الحروف غير منقطة، ولم يتفق الكتبة على طريقة محددة في رسم الحروف في أماكنها المختلفة بالكلمة، فضلًا عن علامات الترقيم التي لم تدخل إلى اللغة العربية إلا في العصر الحديث. ولذا كان الحفظ هو الأساس في قراءة الكتب، فعندما يقرأ شخص كتابًا في خط غير واضح المعالم، فهو يستند إلى حفظه الذي يساعده في قراءة الكلمات. فعلى سبيل المثال أعلنت جامعة برمنجهام عن شذرات من مصحف تزعم أنه كُتب في حياة النبي ﷺ أو بعد وفاته تقريبًا، ولو حاولت قراءة المخطوط من غير استناد إلى حفظك ففي غالب الظن لن تقدر على ذلك.
يتتبع الكتاب حكاية الخط العربي، من كتّاب المصاحف في المدينة النبوية زمن الأمويين، إلى ياقوت المستعصمي وتلاميذه، مرورًا بخط الورّاقين، وأعمال ابن مقلة عليه، وتلميذ تلاميذه ابن البوّاب، ولعل أهم الخطوط التي يتتبعها هو خط الوراقين، الذي ساد زمنًا طويلًا في دكاكين الوراقة، ومثّل الذروة التي وصل إليها النسّاخون القلقون من معاناة قراء الكتب، فبخلاف المصحف، لا يستطيع القارئ أن يعتمد على حفظه لقراءة كتاب في الفقه على سبيل المثال. سيتطور هذا الخط لاحقًا ليصبح هو خط النسخ الذي نعتمد عليه اليوم، والذي تقرأ هذا المقال من خلاله، ولسهولة الكتابة والقراءة بهذا الخط، استخدمه النصارى في كتابة الأناجيل.
استخدم الكُتّاب أول الأمر مادةً للكتابة على ورق البردي عُرفت باسم “المداد“، وكان المداد هذا غير مناسب للكتابة على الرق، فاستعملوا للكتابة عليه مادة أُخرى عُرفت باسم “الحبر“، لكن هذه المادة كانت غير مناسبة للكتابة على الورق، الذي كان يتآكل بسببها، ولذا أصبح المداد الكربوني هو المعتمد في النهاية للكتابة على الورق.
قاد هذا التطور الثلاثي في الورق والخطوط والأحبار ثورةً مخطوطيةً هائلةً في الحضارة الإسلامية، إذ أمدّها بإمكانيات فريدة استثمرتها في إنتاج معارف وفنون متوعة، وسيكشف الكتاب أن هذا التطور الثلاثي يُمثل البنية التحتية التي قام عليها التطور في الرياضيات وابتكار الأرقام، وكذلك في الجغرافيا ورسم الخرائط، وعلم الأنساب ومشجراته، بل وفي التخطيط العسكري والعمراني، وفي الأخير بالذات يحكي الكتاب قصة الانفصال بين المصمم والبنّاء، والذي حدث لأول مرة داخل الحضارة الإسلامية، تحت تأثير الاختراع العظيم: الورق.
ولأن جوناثان بلوم مؤرخ في الفن بالذات، فقد خصص فصلًا لأثر الورق في الفنون الإسلامية، يُبيّن فيه كيف أتاح الورق مساحة واسع للفنانين المسلمين، الذين وضعوا بصماتهم داخل الكتب الأدبية، واستغلوا إمكانات الورق لتزيين المساجد والقصور والأضرحة والعملات والمنسوجات والأواني الخزفية وغيرها بالرسومات والعبارات المكتوبة بخطوط بالغة الجمال. أتاحت الخلفية العلمية لبلوم رصد هذه التطورات التي وفّرها الورق، ولكنه تكلم بشكل طفيف عن أثر الورق في العلوم الشرعية وتطورها، ولم يتتبع مخطوطاتها والظواهر الفنية بها، وهي ثغرة كبيرة في الكتاب، حتى أنني قرأت مراجعةً للكتاب في النيويورك تايمز لكبير النقّاد الفنيين بها، يستنتج من الكتاب أن الدور الأبرز للورق كان علمانيًا! وهذا يخالف واقع المخطوطات التي كان غالبها يدور في فلك العلوم الشرعية، والعلوم التي تخدمها.
الورق في المطبعة
اضمحلت صناعة الورق في العالم الإسلامي تحت ضربات تيمورلنك، الذي قضى عليها تمامًا في العراق والشام، وأخذ معه نخب الحرفيين إلى عاصمته سمرقند. بينما عصفت الأزمات الاقتصادية في مصر تحت حكم المماليك بصناعة الورق، وجعلت العرب والمسلمين مجرد مستوردين ومستهلكين للورق الأوروبي، وواجهوا معه مشكلات شرعية، فقد كان التجار الأوروبيون يضعون علامة مائية على الورق تُمثّل علامة جودة، وكانت هذه العلامات في أكثر الأحيان على شكل صليب.
تعرف الأوروبيون على صناعة الورق من خلال المسلمين في الشام والأندلس في القرنين الخامس والسادس للهجرة، الحادي عشر والثاني عشر للميلاد، وهو ما مهّد الطريق لاختراع المطبعة ذات الحروف المتحركة بعد خمسة قرون من استعمال الأوروبيين للورق، وما كان للمطبعة أهمية كبيرة من غيره، فقد كانت طباعة نسخة واحدة من كاتب على الرق، ستساوي قيمة نسخ كتاب واحد على الورق، فضلًا عن كُلفة إعداد الرق من جلود الماشية، ولذا يُصرّ بلوم أن المطبعة بوصفها واحدة من أهم محركات التغير الاجتماعي والسياسي بأوروبا، ما كانت لتكون لها أهمية تُذكر لولا الرحلة التي عبرتها الورقة من غرب الصين إلى الأندلس، والتي كان أبطالها المسلمون.
وتتكرر تفسيرات بعض الباحثين حول سبب رفض العالم الإسلامي للمطبعة، ويعيدونها في الأساس إلى فتوى شيخ الإسلام العثماني المحرّمة لها، ثم يبنون على ذلك نظريات حول موقف الإسلام من العلم والمعرفة والابتكارات. يُقلل جوناثان بلوم من أثر غياب المطبعة على انتشار المعرفة في العالم الإسلامي، الذي عوض غيابها من خلال آلية الإملاء والاستملاء، وكفلت هذه الطريقة بإصدار عشرات بل مئات النسخ للكتاب الواحد، ثم يحدد المؤلف السياق الاجتماعي الذي ظهرت فيه المطبعة بأوروبا التي كانت تعيش نزعةً تقنية، بينما لم تظهر في العالم الإسلامي مثل هذه النزعة، وكان يعيش في حواضره آلاف النسّاخ الذين اعتاشوا من نسخ الكتب والمصاحف، وكان اختراع المطبعة يهدد حياتهم بصورة كبيرة، فضلًا عن المخاوف العلمية من تحريف الكتب، وهي ذات أثر بالغ ومتفهم من رفض المطبعة.
سُرعان ما تلمس الأوروبيون المنفعة من طباعة الكتب العربية، وهنا يكشف لنا الكتاب عن قصة دخول الحروف العربية إلى المطبعة في أوروبا، وابتكار خطوط مناسبة لها، ثم طباعة الأناجيل والمصاحف والكتب، قبل أن يعود العالم الإسلامي لتصحيح موقفه من المطبعة، بعد أن خفّت الاعتراضات على طباعة الكتب باللغة العربية إبّان ابتكار الطباعة الحجرية.